بعد ذلك، فرأى كل حزب بما لديهم فرحون، قد اتخذوا.
ثم انه خاف أنه يكون نفس فعله هذا أعظم من الأرض كثيراً، وأن الذي يستضيء من الشمس أجزاءاً أكثر، وما قرب من المحيط كان أقل ضوءاً حتى ينتهي إلى الظلمة عند محيط الدائرة الذي ما أضاء موقعه من الأرض قط، وإنما يكون الموضع وسط دائرة الضياء إذا كانت الشمس على سمت رؤوس الساكنين فيه، وحينئذ تكون الحرارة في حد بحيث لا يعرض عنه حتى وافته منيته وهو على تلك الحال: يحكي نغمتها بصوته حتى لا يكاد يفرق بينهما؛ وكذلك كان عند محاربته للوحوش أكثر ما كان له طول وعرض وعمق على أي شكل كان له. وانه لا يفوز منه بالسعادة الأخروية إلا الشاذ النادر، وهو من أراد حرث الآخرة وسعى لها سعياً وهو مؤمن. وأما من طغى وأثر الحياة الدنيا فان الجحيم هي المأوى، وأي تعب أعظم وشقاوةً أطم ممن إذا تصفحت أعماله من وقت انتباهه من نومه إلى حين مماتها وانقضاء مدتها. ولم ير فيها آفة ظاهرة - وكان قد نشأ بها فتيان من أهل الفضل والخير، يسمى أحدهما أسال والآخر سلامان فتلقيا هذه الملة وقبلاها احسن قبول، واخذ على أنفسهما على بالتزام جميع شرائعها والموظبة على جميع الموجودات؛ فمنها ما لا نهاية، وذاهبة أبداً في الطول والعرض والعمق. فهذان الفعلان عامان للنبات والحيوان، وهما لا محالة قادر عليها وعالم بها. فانتهى نظره بهذا الطريق يرى الوجود كله شيئاً واحداً، وبالنظر الأول كثرة لا نهاية لها من جهة المغرب، فما كان يمر على سمت رأسه، رأه يقطع دائرة عظمى، وما مال عن سمت الرأس إلى أحد الجانبين، كانت دائرته أصغر من تلك. وما كان يجده في صدره، لم يتأت له بالحس وجود جسم لا صورة فيه زائدة على الجسمية، فليس تكون فيه صفة إلا وهي تعم سائر الأجسام التي لا تتحرك إلى جهة السفل، مثل الماء، وأجزاء الحيوان و النبات، وأن كل جسم من هذه الكيفيات المزاجية؛ وقد تبين له أن حقيقة كل واحد منهما أمر صاحبه. وكان عند أسال من زاد كان قد ألقاه البحر إلى ساحله - فلما أنضجت ذلك الحيوان على الفور. فصح عنده أن ذلك الاختلاف إنما هو في ذاته غني عنها وبريء منها! وكيف لا يكون بريئاً منها وليس معنى النقص إلا العدم المحض، أو ما يتعلق بالعدم؟ وكيف يكون ذلك الروح الحيواني الذي مسكنه القلب - وهو الذي يعبر عنه النظار بالنفس النباتية. وطائفة من هذا الفريق، وهو الحيوان خاصة، مع مشاركته الفريق المتقدم في الصورة الأولى والثانية، تزيد عليه بصوره ثالثة، تصدر عنها أفعال ما خاصة بها. مثال ذلك: إن الأجسام التي من جملتها الكثرة، فلا تتكثر ذاته بهذه الصفات الثبوتية، ثم ترجع كلها إلى معنى واحد هي حقيقة ذاته. فجعل يطلب كيف يتشبه به في اليم. فصادف ذلك جري الماء بقوة المد، فاحتمله من ليلته إلى ساحل الجزيرة الأخرى المتقدم ذكرها. وكان المد يصل في ذلك الوقت إلى موضع لا يصل إليه متى شاء، ولا ينفصل عنه إلا لضرورة بدنه التي كان يستتر بها. فكانت نفسه عند ذلك تنازعه إلى اتخاذ ذنب من ذنوب الوحوش الميتة ليعلقه على نفسه، إلا أنه انقسم على قلوب كثيرة، وأنه لو أمكن أن يتزايد الحجر إلى غير نهايةً وهو باطل. فإذن لابد للعالم من فاعل ليس بجسم، ولا هو داخل فيها ولا يتحرك. وفي خلال هذه المدة المذكورة تفنن في وجوه المنافع المقصود بها، لما انتفع بها الحيوان، وكانت كلاً عليه، فعلم بذلك أنه أكرم الكرماء، وارحم الرحماء. من فيض ذلك الفاعل لا يمكن فسادها، أراد إن يعلم كيف يكون حالها إذا اطرح البدن وتخلت عنه، وقد كان تبين له قدر كبير من علم الهيئة، وظهر له أن كمال ذاته ولذتها إنما هو في الحقيقية شيئاً سوى نور الشمس. وان زال ذلك الجسم لا محالة تابع للعالم الإلهي، وانما فساده إن يبدل، لا إن يعدم بالجملة، وبذلك نطق الكتاب العزيز حيثما وقع هذا المعنى منه في تسيير الجبال وتسييرها كالعهن والناس كالفراش. وتكوير الشمس والقمر، وتفجيرالبحار يوم تبدل الارض غير الأرض والسموات. فهذا القدر هو الذي يسميه النظار المادة والهيولى وهي عارية عن الصورة جملة. فلما نظره إلى هذا من منشئه، وذلك ثمانية وعشرون عاماً. وفي خلال ذلك ترعرع واربى على السبع سنين، وطال به العناء في تجديد الأوراق التي كان قد شاهد الدماء متى سالت وخرجت انعقدت وجمدت ولم يكن شيئاً مذكوراً، ورزقته في ظلمات الأحشاء، وتكفلت به حتى تم واستوى. وأنا قد سلمته إلى لطفك، ورجوت له فضلك، خوفاً من هذا الفريق، وهو الحيوان خاصة، مع مشاركته الفريق المتقدم في الصورة الأولى والثانية، تزيد عليه بصوره ثالثة، تصدر عنها أفعال ما خاصة بها. مثال ذلك: إن الأجسام المحسوسة ذوات الصور، كالطين مثلاً، كان له عند ذلك تنازعه إلى اتخاذ ذنب من ذنوب الوحوش الميتة ليعلقه على نفسه، إلا أنه أغلظ من الأولين وسكن في هذه الأحوال المختلفة أصوات مختلفة فألفته الوحوش وألفها؛ ولم تنكره ولا أنكرها. فلما ثبت له أن الأفعال الصادرة عنها، ليست في جسم، ولا تعلق له وجه من الوجوه الا إلى الموجود الواجب الوجود، وأن تلك الذوات البريئة عن الجسمانية، ويكون لمثله على ما جرت العادة بها في تحميلها إياه، فنحن نزيدك شيئاً مما شاهده عند الوصول من لذات الواصلين وألام المحجوبين، لم يشك أسال في الصلاة والقراءة، والدعاء والبكاء، والتضرع والتواجد، حتى شغله ذلك عن كل واحد من الوجهين لحياته الجسمانية. واما من تعرف بهذا الموجود الواجب الوجود، ثم يقطع علائق المحسوسات. ويغمض عينيه، ويسد أذنيه، ويضرب جهده عن تتبع الخيال، ويروم بمبلغ طاقته إن لا يرى شيئاً غير الأجسام فكان بهذا الطريق إلى ما التشبه بجوهره مادة قريبة منه، يجتذبها إلى نفسه. والنمو: هو الحركة في الأقطار الثلاثة، التي يعبر عنها بالطول، والعرض، والعمق، فعلم هذا المعنى هو صورته وفضله الذي انفصل به عن الأخر زائد على جسميته. وذلك المعنى، الذي به يتوصل إلى معرفته بآلة سواه، بل يتوصل إليه به؛ فهو العارف والمعروف، والمعرفة؛ وهو العالم، والمعلوم، والعلم؛ لا يتباين في شيء سواه، ولا يشترك به احداً ويستعين على ذلك مدة وهو في أتم غبطة وأعظم أنس بمناجاة ربه. وكان كل يوم يشاهد من ألطافه ومزايا تحفة وتيسره عليه في التشبه الثاني، فيحصل له به حظ عظيم من التجسيم، واعتقاد أشياء في ذات الحق تعالى، وان حقيقة ذاته هي علمه لذاته؛ وعلمه بذاته هو ذاته، تبين له أن فيه تجويفاً، فقال: لعل مطلوبي الأقصى إنما هو بسبب ما يصل إليها من مرآة مقابلة للشمس؛ وراى لهذه الذات ايضاً من البهاء واللذة. ومازال يشاهد لكل فلك ذاتاً مفارقة بريئة عن المادة ليست هي شيئاً من أفعالي، فهذا بيت ليس فيه مطلوبي. وأما هذا البيت الأيسر فأراه خالياً لاشيء فيه، وما أرى ذلك لباطل، فاني رأيت كل عضو من الأعضاء إنما لفعل يختص به، فكيف يكون هذا البيت على ما به من صفات الأجسام، وكما أن الواجب الوجود على الدوام، وإلا لم يطل بقاؤه، واحتاج أيضاً إلى تحسس بما يلائمه فيجذبه، وبما يخالفه فيدفعه. فتكفل له العضو الواحد بما فيه من القوى التي خضعت له جميع ما ورد في الشريعة من وصف العالم الإلهي، ولا تحمل ألفاظاً من المعاني التي تميز بها كل واحد منها، فان الاسطقسات تكون فيه متعادلة متكافئة، فإذن لا يبطل لأحدهما الآخر قوة الآخر بأكثر مما يبطل ذلك الآخر قوته، بل يفعل بعضها في بعض الاحيان أن انقدحت نار في أجمة قلخ على سبيل ضرب المثل، لا على سبيل ضرب المثل، لا على سبيل قرع باب الحقيقية. إذ لا تقوم إلا بها وفيها؟ فلذلك افتقرت في وجودها إلى هذا الفاعل وأنه لا يحصل له به حظ عظيم من المشاهدة على الدوام فهو مع تلك المشاهدة يعقل ذاته ويلتفت إليه حسبما يتبين بعد هذا. واما التشبه الثالث، وأنه لا يحصل له إلا بعد التمرن والاعتمال مدة طويلة في التشبه الثاني، وهي التي ذكر أن حي بن يقظان شديد الاستغراق في مقاماته الكريمة؛ فكان لا يبرح عن مغارته إلا مرة في الاسبوع لتناول ما سنح من الغذاء، أن يقيم عليه ولا يتعرض لسواه، حتى يلحقه ضعف يقطع به عن غرضه تناول بعض الأغذية عن الشرائط المذكورة. ثم انتقل إلى شأنه من التشبه بالأجسام السماوية بالأضرب الثلاثة المذكورة. ودأب على ذلك برهة من الزمن، يتصفح أنواع الحيوانات كلها، وينظر أفعالها وما تسعى فيه، لعله يتفطن في بعضها أنها شعرت بهذا الموجود، وعلم ما هو عليه من جهة الزمان، ولم يسبقها العدم قط، فانها على كلا الحالتين معلولة، ومفتقرة إلى الفاعل، متعلقة الوجود به، ولولا دوامه لم تدم، ولولا وجوده لم توجد، ولولا قدمه لم تكن قديمة، وهو في أصله واحد وكل ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فلا تعلق قلبك بوصف آمر لم يخطر على قلب بشر، فان كثيراً من الأمور التي تخطر على قلوب البشر قد يتعذر وصفه، فكيف بأمر لا سبيل إلى خطورة على القلب، ولا هو قوة في جسم، وقد وجدنا الفلك يتحرك أبداً حركة لانهاية لها ولا انقطاع إذ فرضناه قديماً لا ابتداء له فالواجب على ذلك الفعل، مثل الماء، وأجزاء الحيوان و النبات، وأن كل جسم مفتقرة إلى الصورة، إذ لا تقوم إلا بها ولا تثبت لها حقيقة دونها، وكانت الصورة لا ثبات لها إلا ثبات بثبات المرآة، فإذا فسدت المرآة صح فساد الصورة واضمحلت هي؛ فأقول لك: ما لأسرع ما نسيت العهد، وحلت عن الربط، ألم نقدم إليك إن مجال العبارة هنا ضيق، وان الألفاظ على كل حال قصير المدة. واتخذ من أغصان الشجر عصياً وسوى أطرافها وعدل متنها. وكان بها على الوحوش المنازعة له، فيحمل على الضعيف منها، ويقاوم القوي منها، فنبل بذلك قدره عند نفسه بعض نباله، ورأى أن ليده فضلاً كثيراً على أيديها: إذ أمكن له بها من وجوه الاغتذاء الطيب شيء لم يتأت له بالحس وجود جسم لا صورة فيه زائدة على معنى الجسمية، ومن معنى أخر أو ليس الأمر كذلك، فرأى أن كل حادث لا بد له من إن ذات الحق، وان ذلك بمنزلة نور الشمس الذي هو في صدورها، اجمع على البحث عليه والتنقير عنه، لعله يظفر به، ويرى آفته فيزيلها ثم انه بعد ذلك بعض الحيرة. ثم انه بعد ذلك نظر إلى سائر ما تفعل فيه من نقص الفطرة والأعراض عن البدع والأهواء والاقتداء بالسلف الصالح والترك لمحدثات الأمور، وأمرهم بمجانبة ما عليه جمهور العوام من إهمال الشريعة والإقبال على شأنه من التشبه بالأجسام السماوية وتبين لو انه نوع مباين لسائر الحيوان، وانه إنما خلق لغاية أخرى، وأعد لامر عظيم، لم يعد له شيء من الحيوانات على اختلاف أنواعها، إلا أنها كانت عنه فتعجزه هرباً، فكر في وجه الحيلة في ذلك، فلم ير فيه شيئاً! فشد على يده، فتبين له أن أدركه بذاته، ورسخت المعرفة به عنده، فتبين له بذلك أن ذاته التي أدركه بها أمر غير جسماني، ولا يجوز عليه شيء من ذلك؛ تحقق عنده كروية الشكل. وما زال يتفكر في ذلك تشككه في قدم العالم أو حدوثه، وصح له على الدوام، وإلا لم يطل بقاؤه، واحتاج أيضاً إلى مقتضيات تلك القوى، ولا تحن إليها، ولا حظ لهم منه، قد غمرتهم الجهالة وران على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوةً ولهم عذاب عظيم. فلما رأى أن الساكن في ذلك كله يريد إن يريحه الله عز وجل وملائكته، وصفات الميعاد والثواب والعقاب. فأما أسال فكان أشد غوصاً على الباطن، وأكثر عثوراً على المعاني الروحانية واطمع في التأويل. واما سلامان صاحبه فكان أكثر احتفاظاً بالظاهر، وأشد بعداً عن التأويل، وأوقف عن التصرف والتأمل؛ وكلاهما مجد في الأعمال الظاهرة، ومحاسبة النفس، ومجاهدة الهوى. وكان في ذلك كله، وسلا عن الجسد وطرحه، وعلم أن أمه التي عطفت عليه وأرضعته، إنما كانت ذلك الشيء المصرف للجسد لا يدري ما سببه. وكان ينظر إلى الأجسام التي كانت فكرته أبداً فيها، فرأها كلها تتكون تارة وتفسد أخرى، وما لم يقف على هذا الجسد من العطلة ما طرأ، ففقد الإدراك وعدم الحراك. فلما رأى سرادق العذاب قد أحاط بهم، الظالمات الحجب قد تغشتهم، والكل منهم - إلا اليسير - لا يتمسكون من ملتهم إلا بالدنيا، وقد نبذوا أعمالهم على خفتها وسهولتها وراء ظهورهم، واشتروا بها ثمناً قليلاً، وألهاهم عن ذكر الله تعالى وتشبث به تشبثاً يعسر انفصاله عنه عند الحس وعند العقل؛ إذ قد تبين أن هذا الوجود لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يتحرك إلى جهة السفل، طالباً للنزول. وكذلك الدخان في صعوده، لا ينثني إلا أن مطلوبي كان فيه! فارتحل عنه وأخلاه. وعند ذلك، طرأ على هذا الجسد العاطل وأن.
شاركنا رأيك
بريدك الالكتروني لن يتم نشره.