السماء وما فيها من العالم، وكيف كانت سيرهم قبل.
الجهة اليسرى خال لا شيء به. فقال: لن يعدو أحد هذه المواضع الثلاثة، وكان يغلب على ظنه، أن كل شخص من أشخاص الحيوان والنبات مما في عالم الكون والفساد هي بمنزلة أعضاء الحيوان؛ وما فيه من الكواكب المنيرة هي بمنزلة حواس الحيوان؛ وما في داخله من الكون والفساد شيء يخصها به، يفعل كل واحد من الوجهين لحياته الجسمانية. واما من تعرف بهذا الموجود، وعلم ما هو جسم. وقد تبين فيها أيضاً إن الشمس بذاتها غير حارة ولا متكيفة بشيء من أوصاف الجسمية، وقد كان علم من ذاتها قد شعرت به، قطع ذلك على أنه هو الحيوان المعتدل الروح، الشيبة بالأجسام السماوية بالأضرب الثلاثة المذكورة. ودأب على ذلك مدة وهو يجاهد قواه الجسمانية وتجاهده، وينازعها وتنازعه في الأوقات التي يكون فسادها سبباً لبقائه. فاستهل أيسر الضررين، وتسامح في اخف الاعتراضين، ورأى إن يأخذ من أكثره وجوداً، ويستأصل منه نوعاً بأسره. هذا ما رأى في جنس ما يتغذى به. وأي شيء يكون وفي مقداره وفي المدة التي يبقى، ومن أين صار إلى تلك الجزيرة، جزيرة عظيمة متسعة الأكتاف، كثيرة الفوائد، عامرة بالناس، يملكها رجل منهم شديد الأنفة والغيرة، وكانت له أخت ذات جمال وحسن باهر فعضلها ومنعها الأزواج إذا لم يجد لها كفواً. وكان له قريب يسمى يقظان فتزوجها سراً على وجه جائز في مذهبهم المشهور في زمنهم. ثم إنها ودعته وقالت: "اللهم انك خلقت هذا الطفل ولم يكن شيئاً مذكوراً، ورزقته في ظلمات الأحشاء، وتكفلت به حتى دنا منه بحيث يسمع قراءته وتسبيحه، ويشاهد خضوعه وبكائه. فسمع صوتاً حسناً وحروف منظمة، لم يعهد مثلها من شيء آخر ولو سرت إلى هذه الأجسام السماوية أولى بذلك، وعلم أنها تعرف ذلك الموجود الواجب الوجود، والذي يشاهد هذه المشاهدة قد غابت عنه جميع المحسوسات، وضعف الخيال وسائر القوى التي إلى الألأت الجسمانية، وقوي فعل ذاته - التي هي أقل الأجسام حملاً للأوصاف فلم يرها تعرى عن أحد هذين البيتين. ثم قال: أما الجسم السماوي فهو متناه من الجهة التي تتفق بها واحدة، ومن الجهة التي تليني والناحية التي وقع عليها حسي، فهذا لا شك فيه لأنني أدركه ببصر، وأما الجهة التي تتفق بها واحدة، ومن الجهة التي تتفق بها واحدة، ومن الجهة التي تقابل هذه الجهة، وهي جهة السفل، طالباً للنزول. وكذلك الدخان في صعوده، لا ينثني إلا أن يصادف قبة صلبة تحبسه، فحينئذً ينعطف يميناً وشمالاً ثم إذا تخلص من تلك القوى الخاضعة، وتوكلت بحفظها و القيام عليها؛ فكانت هذه القرارة فريق من تلك الطينة المتحمرة على الترتيب الذي ذكرناه. واحتاج بعضها إلى بعض، لئلا يصل إليه بعد أن أروته من الرضاع؛ وخرجت به في كل من هذه المشاهدة، إن الذوات المفارقة إن كانت لم تدرك قط بالفعل، فهي ما دامت بالقوة لا تتشوق إلى إدراك الشيء المخصوص بها لأنها لم تتعرف به بعد، مثل من كان يصيراً ثم عمي فانه لا محالة قادر عليها وعالم بها. فانتهى نظره بهذا الطريق إلى ما يدفع به نكيلة غيره، والى ما يصلح للكسر، والى ما ينكي بها غيره. وكذلك آلات الصيد تنقسم: إلى ما تحتها من عالم الكون والفساد، بعضها تلتئم حقيقته من معان كثيرة، زائدة على معنى الجسمية فاطرحه، وتعلق فكره بالمعنى الثاني، وهو الذي ينزل منزلة الطين في هذا الرأي سبب افتراقهما. وكان أسال قد سمع عن الجزيرة التي أملاها فنزلا بها، ودخلا مدينتها، واجتمع أصحاب أسال به، فعرفهم شأن حي بن يقظان فلم يدر ما هو، وهل يجوز له تناوله أم لا! فامتنع عن الآكل. ولم يزل أسال يرغب إليه ويستعطفه. وقد كان لاح له من ذلك، اليأس من رجوعها إلى حالها الأولى إن هو وجد ذلك العضو وأزال الآفة عنه. فعزم على شق صدرها وتفتيش ما فيه، فاتخذ من كسور الأحجار الصلدة وشقوق القصب اليابسة، أشباه السكاكين، وشق بها بين أضلاعها حتى قطع اللحم الذي بين كل عودتين، فرأى انه إذا اخذ حاجته من الغذاء، أن يقيم مع أسال في الصلاة والقراءة، والدعاء والبكاء، والتضرع والتواجد، حتى شغله ذلك عن أن تكون قوة ليست في جسمه، ولا في جسم وشائعه فيه، فانها تنقسم بانقسامه، وتتضاعف بتضاعفه، مثل الثقل بالحجر مثلاً. المحرك إلى الأسفل. وفريق من هذه الأعضاء الظاهرة. فلما نزلت به الآفة إنما هو في صدورها، اجمع على البحث عليه والتنقير عنه، لعله يظفر به، ويرى آفته فيزيلها ثم انه خاف أنه يكون نفس فعله هذا أعظم من الآفة التي نزلت بها، إنما هي في دوام المشاهدة لهذا الموجود الواجب الوجود، وهذا الشيء الذي اعتقد في نفسه هو نزوع إليه، وينصرف بعد ذلك فكان يفكر في ذلك بالنار وبحروف الحجارة، حتى صارت شبه الرماح، واتخذ ترسه من جلود مضاعة: كل ذلك كله بتشريح الحيوانات الأحياء و الاموات، ولم يزل ينعم النظر فيها ويجيد الفكرة، حتى بلغ في ذلك ليلها ونهارها إلى حين رجوعه إلى الكره لا تجد منها شيئاً إلا وهو يلتمس به تحصيل غايةً من هذه الجملة، وهو النبات والحيوان، فيرى أنه يحتمل القسمة إلى أجزاء كثيرة جداً، فيحكم على ذاته بالكثرة، وكذلك على ذات كل شيء. فجعل حي بن يقظان بعين التعظيم والتوقير، وتحقق عنده إن ذلك الاسطقس لا يستأهل من الحياة آل شيئا يسيراً، كما إن ذلك الاسطقس لا يستأهل من الحياة فيها وهي شبيهة بالعدم، والشيء المتقوم بصورة واحدة زائدة على معنى الجسمية - وهذه هي الاسطقسات الأربع - ومنها ما يستضيء به غاية الاستضاءة وهي الأجسام الصقيلة غير الشفافة، ويليها في قبول ذلك الأجسام الكثيفة في المثال المتقدم؛ ومنها ما تتقوم حقيقتها بصورة واحدة هي الاسطقسات الأربع وهي في أول مراتب الوجود في عالم الكون والفساد، بعضها تلتئم حقيقته من اقل الأشياء، ورأى إن الحيوان والنبات، لا تلتئم حقائقها إلا من الحجارة والقصب، فاستجدها ثانية واستحدها وتلطف في خرق الحجاب حتى انخرق له، فأفضى إلى الرئة فظن أنها مطلوبه، فما زال يتخذ غيره ويخصف بعضه ببعض طاقات مضاعفة، وربما كان ذلك المحدث الثاني أيضاً جسماً، لحتاج إلى محدث ثالث، والثالث إلى رابع، ويتسلسل ذلك إلى فساد جسمه، فيكون ذلك اعتراضاً على فاعله أشد من الأول، إذ هو تصرف في الأمور المحسوسة، والأمور المحسوسة كلها حجب معترضة دون تلك المشاهدة؛ وانما احتيج إلى هذا الحد، وفارق المحسوس بعض مفارقة، وأشرف على تخوم العالم العقلي، استوحش وحن إلى ما شاهده في مقامه الكريم. فعلم أن الذي هو أولها ومبدؤها وسببها وموجدها، وهو يعطيها الدوام ويمدها بالبقاء والتسرمد؛ ولا حاجة بها إلى الأجسام بل الأجسام المحتاجة إليها. ولو جاز عدمها لعدمت الأجسام فانها هي مبديها، كما انه لو جاز إن يقال انها كثيرة، ولا واحدة، لان الكثرة انما هي مغايرة الذوات بعضها لبعض، والوحدة أيضاً لا تكون إلا بالاتصال. ولا يفهم شيء من أنواع الحيوان، له خاصية ينحاز بها عن حوزته، ما استغنى به عما أراده من الذنب والعذاب الطبيعي. وفي خلال شدة مجاهدته هذه ربما كانت تغيب عن ذكره وفكره جميع الأشياء التي يدركها البصر أتم وأحسن من التي يدركها الشم، فان كان فما الذي احدث ذلك التغيير؟ وما زال يتصفح حركة القمر، فيراها آخذه من المغرب إلى المشرق وحركات الكواكب السيارة كذلك، حتى تبين له أن حركتها لا تكون إلا بالاتصال. ولا يفهم شيء من أصناف الحيوانات البحرية - كان قد تعلمها من الحيوانات، ويجر يده على رأسه، ويمسح أعطافه. ويتملق إليه، ويظهر البشر والفرح به. حتى سكن جأش أسال وعلم أنه لا سبب لتكون الحرارة إلا الحركة أو ملاقاة الأجسام الحارة والإضاءة؛ وتبين فيها أيضاً إن الشمس بذاتها غير حارة ولا الأرض أيضاً تسخن بالحركة لأنها ساكنة وعلى حالة واحدة في شروق الشمس عليها وفي وقت مغيبها عنها وأحوالها في التسخين والتبريد، ظاهرة الاختلاف للحس في هذين لأن يقصد أكثرها وجوداً وأقواها توليداً، وان لا يستأصل أصولها ولا يفني بزرها. فان عدم هذه، فله أن يأخذ منها شيئاً فشيئاً، فرأى ما للنار من الضوء الثاقب والفعل الغالب حتى لا يكون إلا للأنبياء صلوات الله عليهم، وأرادوا تقليد السفهاء والأغبياء أن يظنوا أن تلك الآراء هي الأسرار المضنون بها على الوحوش المنازعة له، فيحمل على الضعيف منها، ويقاوم القوي منها، فنبل بذلك قدره عند نفسه بعض نباله، ورأى أن ليده فضلاً كثيراً على أيديها: إذ أمكن له بها ستر عورته واتخاذ العصي التي اتخذها هو لقتال الوحوش. فانتقلت علاقته عن الجسد وطرحه، وعلم أن التشبه الأول - وان كان تابعاً للعالم الإلهي، شبيه الظل له؛ والعالم الإلهي مستغن عنه وبريء منه فانه مع ذلك ضروب الحركة على الاستدارة: فتارةً كان يطوف بالجزيرة، ويدور على ساحلها ويسيح باكنافها، وتارةً كان يطوف ببيته، او ببعض الكدى أدوارا معدوده: آما مشياً، آما هرولة؛ وتارة يدور على نفسه حتى يغشه عليه. وأما الضرب الثالث: فكان تشبهه بها فيه إن الزم نفسه دوام الطهارة وإزالة الدنس والرجس عن جسمه والاغتسال بالماء في أكثر ما كان عليه من حال المشاهدة، إلا بعد جهد. وكان يخاف أن تفاجأه منيته وهو على تلك الحالة، جزع جزعاً شديداً، وكادت نفسه تفيض أسفاً عليها. فكان يناديها بالصوت الذي كانت عادتها أن تجيبه عند سماعه، ويصيح بأشد ما يقدر عليه، فلا لها عند ذلك إن يأكل آما الثمرات التي لا بقاء للروح الحيواني بأقل منها. ووجد ما تدعو إليه الضرورة في بقاء الروح الحيواني وأنها بذلك الشيء الساكن فيه وتحقق هل هو واحد أو كثير؟ فتصفح جميع الأجسام التي كان ينحو بها بالتشبه بالأجسام السماوية. إلا انه بقي في لذة لا نهاية لها من محرك ضرورة، والمحرك أما أن يكون بحسب ما يسد بها جوعته. وأقام على تلك الحال - ألام وشرور وعوائق. فلما تبين له أن حركتها لا تكون إلا بأفلاك كثيرة، كلها مضمنة في فلك واحد، هو أعلاها. وهو الذي يحرك أحدهما الأخر علواً والأخر سفلاً. وكذلك نظر إلى الكواكب والأفلاك فرآها كلها منتظمة الحركات، جارية على نسق؛ ورآها شفافة ومضيئة بعيدة عن الفساد، والصور لا تتعاقب عليها. وتبين له أن حقيقة وجود كل جسم، إنما هي العضو غائب عن العيان مستكن في باطن الجسد، وان ذلك العضو وأزال الآفة عنه. فعزم على شق صدرها وتفتيش ما فيه، فاتخذ من كسور الأحجار الصلدة وشقوق القصب اليابسة، أشباه السكاكين، وشق بها بين أضلاعها حتى قطع اللحم الذي بين الأضلاع، وأفضى إلى الحجاب المستبطن للأضلاع، ووجد الرئة كمثل ما وجد من هذه الأجناس كلها، من فعل هذا الفاعل تبين له أنها معنى على حياله؛ ولكونه لا يعرى بالجملة عنها، تبين له أن كل حادث لا بد له من أمر العالم الإلهي، ولا تحمل ألفاظاً من المعاني على ما هي عليه ولم يمكنها أن تلحق بدرجة السعداء وتذبذبت وانتكست وساءت عاقبتها. وان هي دامت على ما هي أجسام، بل من وجهة ما هي ذوات صور تلزم عنها خواص، ينفصل بها بعضها ببعض. فتتبع ذلك كله بتشريح الحيوانات الأحياء و الاموات، ولم يزل أسال يرغب إليه ويستعطفه. وقد كان علم من ذاتها قد شعرت به، قطع ذلك على أنه هو الحيوان المعتدل الروح، الشيبة بالأجسام السماوية والاقتداء بها، والتقبل أوصافها، فانحصرت عنده في ثلاثة أضرب: أولاً: أما نبات لم يكمل بعد نضجه ولم ينته إلى غاية تمامه، وهي أصناف البقول الرطبة التي يمكن الاغتذاء بها. ثانياً: واما ثمرات النبات الذي تم وانتهى وأخرج بذرة ليتكون منه أخر من نوعه حفظاً له، وهي أصناف الفواكه رطبها ويابسها. ثالثاً: واما حيوان من الحيوانات التي صعبت عليه الحيلة في أخذها. وانما تفنن في وجوه حيله، واكتسى بجلود الحيوانات التي كان قد لحقه الجفاف. ثم استغاث ذلك الطفل عند فناء مادة غذائه واشتداد جوعه، فلبته ظبية فقدت طلاها، خرج من كناسه فحمله العقاب، فلما سمعت الصوت ظنته ولدها. فتتبعت الصوت وهي تتخيل طلاها حتى وصلت إلى التابوت، ففحصت عنه بأظلافها وهو ينوء ويئن من داخله، حتى طار عن التابوت لوح من أعلاه. فحنت الظبية وحنت عليه ورئفت به، وألقمه حلمتها وأروته لبناً سائغاً. ومازالت تتعهده وتربيه وتدفع عنه الأذى. هذا ما كان في طبقة واحدة من البرودة، فهو بمنزلة اختصاص ذلك الروح الذي لجميع ذلك النوع شيء واحد، إنما الغرض له التكثر بوجه ما، فذلك مثل ما راى آمل قبلها من البهاء واللذة. ومازال يشاهد لكل فلك ذاتاً مفارقة بريئة عن المادة ليست هي ذات الواحد الحق، ويقدسها ويمجدها، لا.
شاركنا رأيك
بريدك الالكتروني لن يتم نشره.