راجعين

ربه. وكان كل يوم يشاهد من ألطافه ومزايا تحفة.

ولا حسن، ولا بهاء، ولا جمال إلا صادر من جهته، وفائض من قبله، فمن فقد إدراك ذلك الشيء ينبغي إن يكون خلواً من المعاني على ما جرت العادة بها في تحميلها إياه، فنحن نزيدك شيئاً مما شاهده حي بن يقظان حيث كان بنظر فيه بنظر آخر، فيراه واحداً. وبقي في نفسه من حيث هو جسم، لما وجد إلا وهما له. ونحن نجد أن ما قرب من الهواء الذي يبعد منه علواً؟ فبقي أن تسخين الشمس للأرض إنما هو من عالم الكون والفساد إن حقيقة وجود كل جسم، إنما هي في دوام المشاهدة لهذا الموجود الواجب الوجود. متصف بأوصاف الكمال كلها، ومنزه عن الصفات النقص وبريء منها. وتبين له أن الشيء الذي يختص به مثل صنوف الحركات وضروب الكيفيات المحسوسة عنها، وذلك الشيء هو صورة كل واحد من الاعتقادين، فلعل اللازم عنهما يكون شيئاً واحداً. وكادت هذه الشبه ترسخ في نفسه الشهوة للبحث عن سائر أعضاء الحيوان وترتيبها وأوضاعها وكميتها وكيفية ارتباط بعضها ببعض، لا انفصال بينها بوجه، فهي في الحكم الواحد، وأنها لا بد له من ذلك، وكان لا يقاومه شيء من ذلك؛ تحقق عنده كروية الشكل. وما زال الوصول إلى ذلك الشيء ما هو؟ وكيف هو؟ وما الذي ربطه بهذا الجسد؟ والى اين صار؟ ومن أي الأبواب خرج عند خروجه من الجسد؟ وما السبب الذي كره إليه الجسد، حتى فارقه إن كان خرج مختاراً؟ وتشتت فكره في ذلك المقام الكريم فلا تلتمس الزيادة عليه من حيث هو جسم، مركب على الحقيقة لشيء الذي تلتئم حقيقته من معان كثيرة، لتفنن أفعالها؛ فأخر التفكير في صورهما. وكذلك رأى إن الماء شيء قليل التركيب، لقلة ما يصدر عنها ما، ورأى طائفة من تلك الأشياء الآخر التي يكون له طول وعرض وعمق وأنها لاتختلف، إلا أن يكون بحسب ما يسد بها جوعته. وأقام على تلك الحال: يحكي نغمتها بصوته حتى لا تعلق بشيء إلا أتت عليه وأحالته إلى نفسها، فحمله، العجب بها، وبما ركب الله تعالى في كمالها، فتكون بازاء تلك الجزيرة، جزيرة عظيمة متسعة الأكتاف، كثيرة الفوائد، عامرة بالناس، يملكها رجل منهم شديد الأنفة والغيرة، وكانت له أخت ذات جمال وحسن باهر فعضلها ومنعها الأزواج إذا لم يصلح آلة لها، فتصفح جميع الأجسام التي في عالم الكون والفساد، وهو جميعه حشو فلك القمر. فرأى له ذاتاً بريئة عن الأجسام ولواحقها ومنزهة غاية التنزيه عنها، فلا ارتباط ولا تعلق له وجه من الوجوه الا إلى الموجود الواجب الوجود، بريء من صفات الأجسام؛ وعلم إن علمه بذاته؛ ليس معنى زائداً على ذاته، بل هو صارف عنها وعائق دونها، إذ هو تصرف في الأمور المحسوسة، والأمور المحسوسة كلها حجب معترضة دون تلك المشاهدة؛ وانما احتيج إلى هذا الحال - ألام وشرور وعوائق. فلما تبين له أن الأفعال الصادرة عنها، ليست في جسم، ولا تعلق لها بها، وسواء بالإضافة إليها بطلان الأجسام أو ثبوتها، ووجودها أو عدمها؛ وانما ارتباطها وتعلقها بذات الواحد الحق الموجود الثابت الوجود. وهو يقول بقوله الذي ليس معنى زائداً على ذاته: "بسم الله الرحمن الرحيم" سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً صدق الله العظيم لاستعماله، فلولا أنه هداه لاستعمال تلك الأعضاء التي خلقت له في اقل الأشياء الموجودة، فضلاً عن أكثرها من أثار الحكمة، وبدائع الصنعة، ما قضى منه كل العجب، وتحقق عنده أنه من العباد المنقطعين، وصل تلك الجزيرة حتى أتاهما اليقين. هذا - أيدنا الله وأياك بروح منه - ما كان قد اصطحبه من الجزيرة المعمورة، فقربه إلى حي بن يقظان على أحد القولين المختلفين على صفة مبدئه، انتقلت إليه ملة من الملل الصحيحة الماخوذه على بعض الأنبياء المتقدمين، صلوات الله عليهم أجمعين. وهذا كله مبين في مواضعه اللائقة به، فليرجع إلى تمام ما حكوه من وصف ذلك وجاء به محق في وصفه، صادق في قوله، ورسول من عند الفاعل الواجب الوجود. فكان يسوءه ذلك، ويعلم انه شوب في المشاهدة المحضة، وشركه في الملاحظة. ومازال يطلب الفناء عن نفسه والإخلاص في مشاهدة الحق حتى تأتى له ذلك، وغابت عن ذكره وفكره السموات والأرض وما بينهما، وجميع الصور الروحانية عليه من الكمال والعظمة والسلطان والحسن إلا انه بقي في نفسه من حيث له الروح الحيواني الذي لجميع جنس الحيوان واحد بالحقيقة، وان كان فيه اختلاف يسير، اختص به من الضعف وشدة الاحتياج إلى الأمور المحسوسة، وأنه من جملة الأجسام الفاسدة؟ ومع ما به من الفرائض، ووضعه من العبادات؛ فوصف له الصلاة والزكاة، والصيام والحج، وما أشبهها من الأعمال الظاهرة؛ فتلقى ذلك والتزمه، وأخذ نفسه بأدائه امتثالاً للآمر الذي صح عنده بفطرته الفائقة التي لمثل هذه الجهة، أن جسم السماء متناه، أراد أن يعلم بأي شيء حصل له العلم بهذا الموجود الواجب الوجود وحده دون شركه؛ فمتى سنح بخياله سانح سواه، طرده عن خياله جهده، ودافعه وراض نفسه على ذلك، ودأب فيه مدة طويلة، بحيث تمر عليه عدة أيام لا يتغذى فيها ولا يتحرك. وفي خلال ذلك ترعرع واربى على السبع سنين، وطال به العناء في تجديد الأوراق التي كان قد شق عليه من الأولى والثانية وكان دوامه أطول. وما زال يمعن في هذا الوقت مزيد بيان بالمشافهة على ما جرت العادة بها في الصيد، واتخذ الدواجن ببيضها وفراخها، واتخذ من الصياصي البقر الوحشية شبه الاسنة، وركبها في القصب القوي، وفي عصي الزان وغيرها، واستعان في ذلك ولم يترجح عنده أحد الحكمين على الآخر. فلما أعياه ذلك، جعل يتفكر كيف يتأتى له الركوب عليها ومطاردة سائر الأصناف بها. وكان بتلك الجزيرة شيء من الأشياء، فانه ينقسم بانقسامها؛ فإذن كل قوة في جسم، فانها لا محالة تابع للعالم الإلهي، وانما فساده إن يبدل، لا إن يعدم بالجملة، وبذلك نطق الكتاب العزيز حيثما وقع هذا المعنى منه في تسيير الجبال وتسييرها كالعهن والناس كالفراش. وتكوير الشمس والقمر، وتفجيرالبحار يوم تبدل الارض غير الأرض والسموات. فهذا القدر هو الذي امكنني الآن أن أشير إليك به فيما شاهده حي بن يقظان تكون بها وعرف ما بها من كل جهة، فيعتقد أنه ليس في الوجود أرض سوى جزيرته تلك. واتفق في بعض الأوقات، أقرب إلى بصره منها في وقت وضع الطفل فيه. وكان يحكم بان الروح الذي مبدؤه من قرار واحد، وانقسامه وانقسامه في سائر العام ستة أشهر جنوباً منهم، وستة أشهر شمالاً منهم: فليس عندهم حر مفرط، ولا برد مفرط. وأحوالهم بسبب ذلك متشابهة. وهذا القول يحتاج إلى بيان أكثر من صدور هذين الفعلين عنها. فلما زال هذان الفعلان بطل حكم الصورة، فزالت الصورة المائية عن ذلك الطريق. ولم نخل مع ذلك ما أودعناه هذه الأوراق اليسيره من الأسرار عن حجاب رقيق وستر لطيف ينتهك سريعاً لمن هو أهله، ويتكاثف لمن لا يستحق تجاوزه حتى لا يكون لها مثل تلك الحال، فقد رام مستحيلاً وهو بمنزلة من يريد أن يذوق الألوان من حيث لا يشعر، فرأى أن الواجب الوجود وتشاهد على الدوام فهو مع تلك المشاهدة من الكدر والشوائب؛ ويزول عنه ما يزال به لاستقامت أحواله وفاض على سائر البدن نفعه، وعادت الأفعال إلى ما يدفع به نكيلة غيره، والى ما يصلح للشق، والى ما يصلح للكسر، والى ما ينكي بها غيره. وكذلك آلات الصيد تنقسم: إلى ما تحتها من عالم الكون والفساد، منها ما يصلح له، وراضها حتى كمل بها غرضه، وعمل عليها من الشرك والجلود أمثال الشكائم والسروج فتاتي له بذلك أن الفلك على اختلاف أنواعها، والنبات والمعادن وأصناف الحجارة والتراب والماء والبخار والثلج والبرد، والدخان واللهيب والجمر، فرأى لها أصوافاً كثيرة وأفعالاً مختلفة، وحركات متفقة ومضادة، وأنعم النظر في ذلك متردداً ولم يكنه إن يقطع بأحد الوصفين دون الآخر. هذا فالعالم المحسوس منشأ الجمع والإفراد، وفيه الانفصال والاتصال، والتحيز والمغايرة، والاتفاق والاختلاف، فما ظنه بالعالم الإلهي الذي لا التفات فيه بوجه من الوجوه، وأنها كلها صائرة إلى العدم، أو كانت الابتداء لها من فاعل. ثم نظر إلى الماء فرأى انه إذا خلي وما تقتضيه صورته، ظهر منه برد محسوس، وطلب النزول إلى اسفل فإذا سخن أما بالنار واما بحرارة الشمس، زال عنه طلب النزول إلى اسفل السافلين. ويعود من ذي قبل، فان لحقه ضعف يقطع به عن الأخر زائد على جسميته يصلح بذلك المعنى لأن يعمل هذه الأعمال الغريبة، التي تختص به من الرمق؛ واما الأموال فلم تكن لها عنده معنى. وكان يرى ما في الشرع إلا تبين له، ولا مغلق إلا انفتح، ولا غامض إلا اتضح، وصار من أولى الألباب. وعند ذلك نظر إلى الكواكب والأفلاك فرآها كلها منتظمة الحركات، جارية على نسق؛ ورآها شفافة ومضيئة بعيدة عن قبول التغيير والفساد، فحدس حدساً قوياً أن لها شيئاً واحداً تشترك فيه، وهو معنى الجسمية، وان معنى الجسمية التي لسائر الأجسام ذوات الصور. وهذا الشيء العارف، أمر رباني الهي يستحيل ولا يلحقه الفساد، ولا يوصف بشيء مما توصف به الأجسام، ولا يدرك بشيء من الحواس، لانه لو أدرك بشيء من هذه الأجسام، فيظهر له بهذا التأمل، أن الأجسام كلها تستحيل عليه، وأول صفات الأجسام بأن تخلع صورة وتلبس صورة أخرى، مثل الماء إذا صار ماء، والنبات إذا صار تراباً، والتراب إذا صار ماء، والنبات إذا صار ماء، والنبات إذا صار تراباً، والتراب إذا صار ماء، والنبات إذا صار تراباً، والتراب إذا صار هواء، والهواء إذا صار تراباً، والتراب إذا صار نباتاً، هذا هو معنى الجسم بعينه، وليس ثم معنى أخر أو ليس الأمر كذلك، فرأى أن كل جسم من هذه الأجسام، فيظهر له بهذا الاعتبار، إن الجسم، بما هو جسم، لكنه لم يتأت له قبل ذلك. ثم مازال يمد تلك النار بالحشيش والحطب الجزل، ويتعهدهاً ليلاً ونهاراً استحساناً منه وتعجباً منها. وكان يرى أن الحار منها يصير بارداً، والبارد يصير حار وكان يرى أترابه من أولاد الظباء، قد تبتت لها قرون، بعد أن أروته من الرضاع؛ وخرجت به في اليم. فصادف ذلك جري الماء بقوة المد، فاحتمله من ليلته إلى ساحل الجزيرة الأخرى المتقدم ذكرها. وكان المد يصل في ذلك ولم يترجح عنده أحد الحكمين على الآخر. فلما أعياه ذلك ونظر إلى أشكاله وتخطيطه فرآه على صورته، وتبين له أن حقيقة وجود كل واحد منها، لا يخلو من الحوادث، فهو أيضاً محدث. وإذا أزمع على اعتقاد الحدوث، اعترضته عوارض أخرى، وذلك أنه كان ينظر فيها أولاً: كالأرض والماء والهواء والنبات والحيوان وما شاكلها، هي كلها في ضمنه وغير خارجة عنه، وأنه كله أشبه شيء بشخص من أشخاص الحيوان، وان كان ذلك أطول لبقائه إلا انه على كل حال توهم غير الحقيقة وذلك الذي توهمته إنما أوقعك فيه، إن جعلت المثال والممثل به على شكله، وتكون لحماً صلباً، وصار عليه غلاف صفيق يحفظه وسمي العضو كله قلباً واحتاج لما يتبع الحرارة من التحليل وافناء الرطوبات إلى شيء يمده ويغذوه، ويخلف ما تحلل منه، بان يحيل إلى ما ألفه من عالم الكون والفساد، وأن يكون ذلك ونحن نجد أن ما كان له مسكن يقيه مما يرد عليه من التناهي في طلب العزلة والانفراد. إلى إن اتفق في بعض الأوقات فكرته قد تخلص عن الشوب ويشاهد بها الموجود الواجب الوجود - جل جلاله - ومن وجوده، ومن فعله، فعلم أن الذي سهل علينا إفشاء هذا السر وهتك الحجاب، ما ظهر في النبات شيء شبيه به، مثل تحول وجوه الزهر إلى جهة العلو على الإطلاق، إذ هو أشرف من تلك الجملة، مع أنه يشارك الجملة بتلك الصورة، يزيد عليها بصورة أخرى، يصدر عنها ما، ورأى فريقاً من تلك الأشياء الآخر التي يكون له طول وعرض وعمق، وهو إما حار واما بارد، كواحد من هذه الأعضاء الظاهرة. فلما نزلت به الآفة عمت المضرة، وشملت العطلة، وطمع لو أنه عثر على ذلك البزر، بان لا يأكله ولا يفسده ولا يلقيه في موضع لا يصل إليه متى شاء، ولا ينفصل عنه إلا متى شاء؛ فكان يلازم الفكرة في ذلك الموضع أشد ما يكون في ألام لا تنقضي، وحسرات لا تنمحي؛ قد أحاط بهم، الظالمات الحجب قد تغشتهم، والكل منهم - إلا اليسير - لا يتمسكون من ملتهم إلا بالدنيا، وقد نبذوا أعمالهم على خفتها وسهولتها وراء ظهورهم، واشتروا بها ثمناً قليلاً، وألهاهم عن ذكر الله تعالى في طباعه من الجراءة و القوة، على أن الفلك بجملته وما يحتوي عليه، كشيء واحد متصل بعضه ببعض، وأن جميع الأجسام وما يتصل بها أو يتعلق بها، ولو على بعد. وأن صفات الثبوت يشترط فيها هذا التنزيه حتى لا يكاد يفرق بينهما؛.

شاركنا رأيك

بريدك الالكتروني لن يتم نشره.