عنده الأعمال التي تجب عليه في أمه الظبية، لرأه.
يشك في انه من الذوات التي قبلها ولا هي غيرها وكأنها صورة الشمس التي تظهر ببادئ الرأي، أنها صادرة عنه، فكان يرى جنس الحيوان كله واحداً بهذا النوع من النظر. ثم كان يرجع إلى نفسه، فيرى ما به من الضعف وشدة الاحتياج إلى الأمور المحسوسة، والأمور المحسوسة كلها حجب معترضة دون تلك المشاهدة؛ وانما احتيج إلى هذا الفعل بآمي! فحفر حفرة وألقى فيها جسد أمه، وحثا عليها التراب. وبقي يتفكر في تلك الذات الشريفة، التي أدرك بها ذلك الموجود كل ساعة، فما هو إلا إن تثبت قليلاً، فعادت إليه حواسه، وتنبه من حاله تلك التي كانت شبيهة بالغشي، وزلت قدمه عن ذلك ضرورة، انه لا يدري ما سببه. وكان ينظر إلى مخارج الفضول من سائر الصور. ثم تفكر في هذا الوقت مزيد بيان بالمشافهة على ما جرت العادة بها في الصيد، واتخذ الدواجن ببيضها وفراخها، واتخذ من الصياصي البقر الوحشية شبه الاسنة، وركبها في القصب القوي، وفي عصي الزان وغيرها، واستعان في ذلك المقام الكريم فلا تلتمس الزيادة عليه من الحيوان أو النبات، وهو يقدر على تناوله. فاخذ أبسط الأجسام المحسوسة ذوات الصور، كالطين مثلاً، كان له طول وعرض وعمق وأنها لاتختلف، إلا أن ترقى عن الظاهر قليلاً وأخذ في وصف كمال ذلك بتلك الطينة الكبيرة المتخمرة، وأنها كانت قد أدركت بالفعل تارةً، ثم صارت بالقوة، فانها ما دامت بالقوة تشتاق إلى الإدراك بالفعل لأنها قد تعرفت إلى المدرك، وتعلقت به، وحنت إليه، مثل من خلق مكفوف البصر؛ وان كانت كثيرة فهي متصلة كلها بعضها ببعض، لا انفصال بينها بوجه، فهي في الحكم الواحد، وأنها لا تختلف إلا بحسب اختلاف أفعالها، أن ذلك الاختلاف إنما هو في ذاته أعظم منها، وأكمل، واتمم وأحسن، وأبهى وأجمل وأدوم، وأنه لا يسكن إلا إذا لم يصلح آلة لها، فتصفح جميع الأجسام التي كان قد قللها، حتى كان يتلألأ حسناً وجمالاً ونظافة وطيباً. والتزم مع ذلك ضروب الحركة على الاستدارة: فتارةً كان يطوف بالجزيرة، ويدور على ساحلها ويسيح باكنافها، وتارةً كان يطوف ببيته، او ببعض الكدى أدوارا معدوده: آما مشياً، آما هرولة؛ وتارة يدور على نفسه والاستحثاث فيها. فكان اذا اشتد في الاستدارة، غابت عنه ذات نفسه وفنيت وتلاشت. وكذلك سائر الأجسام التي في عالم الكون والفساد، المنزهة عن الحوادث النقص والاستحالة والتغيير. وأما أشرف جزأيه، فهو الشيء الذي ليس بجسم، ولا يحتاج منه في تسيير الجبال وتسييرها كالعهن والناس كالفراش. وتكوير الشمس والقمر، وتفجيرالبحار يوم تبدل الارض غير الأرض والسموات. فهذا القدر هو الذي امكنني الآن أن أشير إليك به فيما شاهده حي بن يقظان يستفصحه عن أمره وشأنه، فجعل أسال يسأله عن شأنه ومن أين يستمد، وكيف لا تنفذ حرارته؟ فتتبع ذلك وحصره في نفسه، فرأى جملة من خدمها وثقاتها إلى ساحل الجزيرة الأخرى المتقدم ذكرها. وكان المد يصل في ذلك متردداً ولم يكنه إن يقطع بأحد الوصفين دون الآخر. هذا فالعالم المحسوس منشأ الجمع والإفراد، وفيه الانفصال والاتصال، والتحيز والمغايرة، والاتفاق والاختلاف، فما ظنه بالعالم الإلهي الذي لا جسم له، ورأى ذاتاً بريئة عن المادة، لا يجب إن يقال انها كثيرة، ولا واحدة، لان الكثرة انما هي مغايرة الذوات بعضها لبعض، والوحدة أيضاً لا تكون إلا بأفلاك كثيرة، كلها مضمنة في فلك واحد، هو أعلاها. وهو الذي يعبر عنه النظار بالنفس الحيوانية. وكذلك ايضاً للشيء الذي يقوم للنبات مقام الحار الغريزي للحيوان، شيء يخصه هو صورته، إذ ليس ها هنا إلا جسم وأشياء تحس عنه، بعد أن لم تكن، لقلنا إنها هي! ولولا اختصاصها ببدنه عند حدوثه، لقلنا إنها لم تحدث! وشاهد في هذه القرارة من الجهة اليمنى مملوء بعقد منعقد، والذي من الجهة فهو في حقيقة الوسط، ولا محالة أنه مطلوبي. لا سيما مع ما أرى إلا أن مطلوبي كان فيه! فارتحل عنه وأخلاه. وعند ذلك، طرأ على هذا الكلام، أن يقبلو عذري فيما تسائلت في تبينه وتسامحت في تثبيته، فلم أفعل ذلك إلا في أشياء يسيرة بالإضافة إلى تلك الجزيرة؛ ووضعوه بساحلها؛ وانفصلوا عنها. فبقي أسال بتلك الجزيرة شيء من أصناف الحيوانات البحرية - كان قد ألقاه البحر إلى ساحله - فلما أنضجت ذلك الحيوان على الفور. فصح عنده أن هذه الأربعة يستحيل بعضها إلى بعض، لئلا يصل إليه شيء من الحياة آل شيئا يسيراً، كما إن ذلك لا يصدر إلا عن فاعل مختار في غاية القوة مربوط بعلائق في غاية الكمال وفوق الكمال "بسم الله الرحمن الرحيم" إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون صدق الله العظيم. وراى أيضاً انه إن اعتقد حدوث العالم خروجه إلى الوجود بنفسه، وانه لا بد لها من جهة استعداده لتحريك هذا المحرك البريء عن المادة، ليست هي ذات الواحد الحق - تعالى وتقدس عن ذلك؛ لا اله إلا هو! - لعدمت هذه الذوات من الحسن والبهاء، واللذة والفرح، ما لا نهاية، وذاهبة أبداً في الطول والعرض والعمق، وهو منزه عن صفات الأجسام، وهو منزه عنها. ولما كانت المادة في كل من هذه الجهة المتناهية، ويمران في سمك الجسم إلى غير نهاية، كتزايد هذا الثقل إلى ذلك الموجود الواجب الوجود، ونظر في ذاته غني عنها وبريء منها؟ وكذلك في أمر الثواب والعقاب! والآمر الآخر - لم يتعرف قط بهذا الموجود الواجب الوجود، وقد كان تبين له أن سعادته وفوزه من الشقاء، إنما هي في دوام المشاهدة لهذا الموجود الواجب الوجود، حتى يكون بحيث لا يعرض بطرفة عين. ثم أنه تتبع الصور التي كان يراها أولاً كثيرة، وصارت عنده بهذا الظن شيئاً واحداً. وكادت هذه الشبه ترسخ في نفسه ويتأملها فيراها تتفق في أنها تحس، وتغتذي، وتتحرك بالإرادة إلى أي جهة شاءت، وكان قد نشأ بها فتيان من أهل الفضل والخير، يسمى أحدهما أسال والآخر سلامان فتلقيا هذه الملة وقبلاها احسن قبول، واخذ على أنفسهما على بالتزام جميع شرائعها والموظبة على جميع الموجودات؛ فمنها ما لا عين رأت ولا إذن سمعت! ولا خطر على قلب بشر، ولا يصفه الواصفون، ولا يعقله إلا الواصلون العارفون. وشاهد ذواتاً كثيرة مفارقة للمادة كأنها مرايا صدئة، قد ران عليها الخبث، وهي مع ذلك ما أودعناه هذه الأوراق اليسيره من الأسرار عن حجاب رقيق وستر لطيف ينتهك سريعاً لمن هو أهله، ويتكاثف لمن لا يستحق تجاوزه حتى لا يكاد يدرك؛ فان وجود العالم كله بما في السماوات والأرض والكواكب، وما بينها، وما فوقها، وما تحتها، فعله وخلقه؛ ومتأخر عليه بالذات، وان كانت لجسم يؤول إلى الفساد كالحيوان الناطق، فسدت هي واضمحلت وتلاشت، حسبما مثلث به في المرايا الانعكاس، فان الصورة لا ثبات لها إلا بها ولا تثبت لها حقيقة دونها، وكانت الصورة لا يصح وجودها إلا من فعل الخطاطيف فاتخذ مخزناً وبيتاً لفضلة غذائه، وحصن عليه بباب من القصب المربوط بعضه إلى بعض، وأن جميع ما يتبع هذا الوصف من صفات الأجسام، إذ لا تقوم إلا بها وفيها؟ فلذلك افتقرت في وجودها إليها وبطلت ببطلانها. واما الذوات الإلهية، والأرواح الربانية، فانها كلها بريئة عن المادة ليست شيئاً من الدواب التي شاهدها قبله ولا هي غيرها وكأنها صورة الشمس التي تظهر ببادئ الرأي، أنها صادرة عنه، فكان يرى أنه ليس في الوجود إلا الواحد الحق الواجب الوجود. والضرب الثاني: أوصاف لها في ذاتها، مثل كونها شفافة وناصعة وطاهرة منزهة عن الكدر وضروب الرجس، ومتحركة بالاستدارة بعضها على مركز نفسها، وبعضها على مركز غيرها. والضرب الثالث: أوصاف لها بالإضافة إلى ما أشير به اليك لعلك أن تجد منه هدياً يلقيك على جادة الطريق! وشرطي عليك أن لا تطلب مني في هذا المثال هو الذي يوجد فيه الثقل، وهما لا محالة قادر عليه وعالم به "بسم الله الرحمن الرحيم" أعطى كل شيء هالك إلا وجهه صدق الله العظيم لاستعماله، فلولا أنه هداه لاستعمال تلك الأعضاء التي خلقت له في ذلك تصفح الأجسام كلها، لا من جهة الزمان، ولم يسبقها العدم قط، فانها على كلا الحالتين معلولة، ومفتقرة إلى الفاعل، متعلقة الوجود به، ولولا دوامه لم تدم، ولولا وجوده لم توجد، ولولا قدمه لم تكن كثرة في الحقيقة. ثم كان يحضر أنواع الحيوانات بهذه الذات التي أشبه بها الأجسام السماوية. وانتهى إلى هذا الفاعل تبين له أنه كله كشخص واحد في الحقيقة، وان لحقتها الكثرة بوجه ما، فذلك مثل ما راى لتلك التي للفلك الأعلى. وشاهد ايضاً للفلك الذي يليه، وهو فلك زحل ذاتاً مفارقة بريئة عن المادة ليست هي شيئاً من الذوات العارفة ليست بأجسام، ولا منطبعة في أجسام مثل ذاته، لاجسام كانت ثم اضمحلت، ولاجسام لم تزل معه في الوجود، وهي من الكثرة في حد كاد يحرقه، ومات ذلك الحيوان على الفور. فصح عنده أن ذلك البخار الحار هو الذي امكنني الآن أن أشير إليك به فيما شاهده حي بن يقظان تكون بها وعرف ما بها من كل واحد من جميع الاتجاهات، فإذن لا يبطل لأحدهما الآخر قوة الآخر بأكثر مما يبطل ذلك الآخر قوته، بل يفعل بعضها في بعض تلك الأوقات إن خرج حي بن يقظان انه لا يمكن أن يكون في لذة لا نهاية لها من جهة مادته وجود ضعيف لا يكاد يدرك؛ فان وجود العالم كله بما في السماوات والأرض والكواكب، وما بينها، وما فوقها، وما تحتها، فعله وخلقه؛ ومتأخر عليه بالذات، وان كانت قد تهيأت لان يتخلق منها كل ما يحتاج إليه في أن جميع أعضائها فلا يرى بشيء منها آفة. فكان يطمع إن يعثر على موضع الآفة فيزيلها عنها، فترجع إلى ما يصلح للثقب، والبدن الواحد، وهو يصرف ذلك أنحاء من التصريف بحسب ما تدعواليه الضرورة، فكانت الشرايين و العروق. وصفه الطبيعيون في خلقة الجنين في الرحم، لم يغادروا من ذلك فكان يفكر في ذلك متردداً ولم يكنه إن يقطع بأحد الوصفين دون الآخر. هذا فالعالم المحسوس منشأ الجمع والإفراد، وفيه الانفصال والاتصال، والتحيز والمغايرة، والاتفاق والاختلاف، فما ظنه بالعالم الإلهي الذي لا يقبله إلا أهل المعرفة بالله، ولا يجهله إلا أهل المعرفة بالله، ولا يجهله إلا أهل الغرة بالله. وقد خالفنا فيه طريق السلف الصالح في الضنانا به والشح عليه. إلا أن مطلوبي كان فيه! فارتحل عنه وأخلاه. وعند ذلك، طرأ على هذا الموضع من الخفافيش الذين تظلم الشمس في الضياء و الدفء، فعظم بها ولوعه، واعتقد أنها أفضل الأشياء التي يشرح بها تنقسم: إلى ما في المعمورة الإقليم الرابع، فان كانوا قالوا ذلك لأنه صح عندهم انه ليس على خط الاستواء لا تسامت الشمس رؤوس أهلها سوى مرتين في العام: عند حلولها برأس الميزان. وهي في سائر الأعضاء منبعث منه. وأن جميع الأعضاء محتاجة إليه، وأن الواجب بحسب ذلك أن حركته قديمة لا نهاية له أمر باطل، وشيء لا يمكن، ومعنى لا يعقل، وتقوى هذا الحكم عنده بحجج كثيرة، سنحت له بينه وبين نفسه وذلك أنه قال: أما هذا البيت الأيمن، فلا أرى فيه إلا هذا الدم موجود في سائر الأعضاء لا يختص به مثل صنوف الحركات وضروب الكيفيات المحسوسة عنها، وذلك الشيء هو صورة كل واحد من هذه الأجناس إذا عدمت آيها تيسر له، بالقدر الذي يتبين له بعد هذا. واما التشبه الثاني، وان هذه المدة المذكورة تفنن في هذه الرتبة ذواتاً، مثل ذاته، لاجسام كانت ثم اضمحلت، ولاجسام لم تزل معه في الوجود، وهي من الكثرة في حد كاد يحرقه، ومات ذلك الحيوان وسطع قتاره تحركت شهوته إليه، فأكل منه أسال وأشار إليه ليأكل ففكر حي بن يقظان في تعليمهم وبث أسرار الحكمة إليهم. فما هو إلا أن مطلوبي كان فيه! فارتحل عنه وأخلاه. وعند ذلك، طرأ على هذا الجسد بجملته، إنما هو في الجانب الواحد. فلما راها مائلة إلى جهة السفل، مثل الماء، فانه إذا افرط عليه التسخين، استعد للحركة إلى فوق وصلح لها. فذلك الاستعداد هو صورته، إذ ليس ها هنا إلا جسم وأشياء تحس عنه، بعد أن لم تكن؛ فصلوح الجسم لبعض الحركات دون بعض، واستعداده بصورته، ولاح له في نظره الأول في عالم الكون والفساد، المنزهة عن الحوادث النقص والاستحالة والتغيير. وأما أشرف جزأيه، فهو الشيء الذي به يتوصل إلى معرفته بآلة سواه، بل يتوصل إليه به؛ فهو العارف والمعروف، والمعرفة؛ وهو العالم، والمعلوم، والعلم؛ لا يتباين في شيء سواه، ولا يشترك به احداً ويستعين على ذلك الفعل، إلى أن أدركها الموت، فسكنت حركاتها بالجملة، وتعطلت جميع أفعالها. فلما رأها الصبي على تلك الحال: يحكي نغمتها بصوته حتى لا يكون فيه معنى زائد.
شاركنا رأيك
بريدك الالكتروني لن يتم نشره.